الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال اويس بن حجر: وقال عوف بن الجزع يصف فرسا: فهؤلاء جاهليون لا مخضرم فيهم فلو لم تكن قبلا لما نطق بها هؤلاء أما ماهية الجنّ فمختلف فيها، فمنهم من قال إن الجن جسم هوائي يتشكل بأشكال مختلفة، ومنهم من قال انها جواهر ليست بأجسام ولا أعراض وتختلف ماهيتها بعضها عن بعض، فمنها خيّرة كريمة محبة للخيرات، ومنها خسيسة دنيئة شريرة ولعة بالقبائح والآفات، ومنهم من قال إنهم حاصلون في الحيّز موصوفون بالطول والعرض والعمق، فمنهم اللطيف ومنهم، الكثيف، والعلوي والسفلي، ولا يمنع من هذا أن يكون لهم علم مخصوص وقدرة مخصوصة على الأفعال العجيبة التي يعجز عنها البشر كما أشار اليه في سورة ص الآية 27 المارة، وما سيأتي في الآيتين 16،39 من سورة النمل، والآيتين 11، 12 من سورة سبأ والآية 82 من الأنبياء، وغيرها مما نورده في محله إن شاء اللّه، وذلك بإقدار اللّه إياهم، فمن أنكر شيئا مما تقوم فهو على غير طريقة أهل السنة والجماعة، وإنّ ما أجمعوا عليه في هذا الشأن مستند للكتاب والسنة كما علمت، وان ما تمسّك به المنكرون من أنه لابد من صلابة البنية حتى تكون النفس المتلبسة بها قادرة على الأفعال الشاقة وأن البنية شرط للحياة ولا حياة بلا بنية، كلها أقوال واهية استدرجوا بها لإنكار وجود الجنّ ولم يعلموا أن انكارهم إنكار للقرآن إن كانوا مسلمين وللتوراة والإنجيل ان كانوا يهودا أو نصارى، وهو كفر بحت والعياذ باللّه، لأن القادر على خلقهم قادر أن يضع فيهم صلابة بالبنية وحياة فيها، وقدرة على الأفعال الشاقة وغيرها، على أن هناك جمعا عظيما من قدماء الفلاسفة وأصحاب الروحانيات اعترفوا بوجودهم وسموهم بالأرواح السفلية، وزعموا أنها جواهر قائمة بأنفسها ليست أجساما ولا جسمانية، هذا وقد اختلف العلماء فيما سمعوه من القرآن أيضا قيل (اقرأ بِاسْمِ ربِّك) وقيل غيرها، إلا أن ما قيل إنه سورة الرحمن لا يصحّ لأنها نزلت بالمدينة وقضية الجنّ في مكة بلا خلاف، وما رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا، فقال لقد قرأتها ليلة الجن على الجن فكانوا أحسن مردودا منكم، كنت كلما أتيت على قوله تعالى: {فبِأيِّ آلاءِ ربِّكُما تُكذِّبانِ} قالوا لا بشيء من نعمك ربّنا نكذّب، فلك الحمد»، أخرجه الترمذي وقال حديث غريب، وفي رواية «كانوا أحسن منكم ردا» فإنه أي هذا الحديث على فرض صحته عبارة عن حكاية ذكرها لأصحابه حضرة الرسول لا يعلم تاريخها فلا يصح الاستدلال بها لاحتمال وقوعها في المدينة وهو الأقرب للمعقول، لأن الرسول اجتمع كثيرا مع الجن وقد ذكرنا آنفا انه اجتمع معهم ست مرات، وأنت خبير بأن الدليل إذا طرقه الاحتمال أبطل الاستدلال به، تأمل هذا: واعلم أن القرآن ذكر حادثتين في استماع الجن في هذه السورة وفي الآية 39 فما بعدها من سورة الأحقاف، وأن اللّه قصّها علينا بواسطة رسوله على طريق الحكاية، ولا يبعد أن حضرة الرسول قرأ عليهم غيرها في مكة أو المدينة بعد أن ذكروا أن الاجتماع بهم كان ست مرات، قال تعالى حاكيا ما قاله الجن عند سماعهم قراءة رسوله {فقالوا} بعضهم لبعض {إِنّا سمِعْنا قرآنا عجبا} 1 ما سمعنا مثله، بديعا في حسن نظمه، بالغا في صحة معانيه، لطيفا في تركيب مبانيه، مباينا لكلام البشر، وجدير أن يتعجب منه لأنه {يهْدِي إِلى الرُّشْدِ} الحق والصواب والعدل والسداد، يقرأ بسكون الشين وضمها وبفتح الراء والشين وضمها {فآمنّا بِهِ} لما سمعناه إذ تحقق لدينا أنه كلام اللّه، وأن البشر يعجز عن مثله، وإنا رجعنا عن الإشراك بمنزل هذا القرآن {ولنْ نُشْرِك} من الآن فصاعدا {بِربِّنا أحدا} 2ولا شيئا من كافة الأوثان، وتدل هذه الآية على أن هؤلاء الجن كانوا مشركين، لذلك تبرأوا من الشرك ونزهوا ربهم عما يقوله الظالمون من اتخاذ الصاحبة والولد بقولهم {وأنّهُ تعالى جدُّ ربِّنا ما اتّخذ صاحِبة ولا ولدا} 3 كما يزعمه المشركون، لأن الصاحبة تتخذ للحاجة والولد للاستئناس والمعونة، واللّه منزه عن ذلك كله.قال أنس: كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة وآل عمران جدّ فينا أي عظم.ويطلق الجد على الغني، منه قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد» {وأنّهُ كان يقول سفِيهُنا} إبليس عليه اللعنة لتعريفه بالإضافة إليهم، وقيل إن الضمير في سفيهنا يعود إلى المردة منهم، فتكون الإضافة للجنس، وهو بعيد لأن الظاهر يأباه {على اللّهِ شططا} 4 كذبا تجاوزا عليه عدوانا وكفرا إذ تبين لنا كذب قوله من إسناد الشريك والصاحبة والولد إليه تعالى عن ذلك {وأنّا ظننّا} قبل أن نسمع هذا القرآن من الرسول محمد {أنْ لنْ تقول الْإِنْسُ والْجِنُّ على اللّهِ كذِبا} 5 لأنهم يقولون لنا ذلك ويؤكدون أقوالهم بالإيمان بأن للّه ولدا وصاحبة وشريكا، وكنا نصدق لأنا لا نعرف أن أحدا يحلف باللّه كاذبا، وقد ظهر لنا الآن أنه منزه عن ذلك كله، وأنهم كانوا يكذبون علينا وعلى خالقهم جل شأنه {وأنّهُ كان رِجالٌ مِن الْإِنْسِ يعُوذُون بِرِجالٍ مِن الْجِنِّ} وذلك أن الجاهلية كانوا اعتادوا إذا أمسى أحدهم في أرض قفر يقولون إنا نعوذ بسيّد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيقول عظماء الجن سدنا الإنس أيضا.روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي السائد الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذاك أول ذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم، فوثب الراعي فقال يا عامر الوادي جارك، فنادى مناد لا نراه يا سرحان أرسله، فإذا الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمة، فأنزل اللّه على رسوله بمكة هذه الآية {فزادُوهُمْ رهقا} 6 الرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم.قال الأعشى: والمعنى أن الإنس زادوا الجن طغيانا وسفها وكبرياء بسبب استعاذتهم بهم {وأنّهُمْ} كفرة الجن وسفهاؤهم {ظنُّوا كما ظننْتُمْ} يا معشر الكفار من الإنس، هذا على عود الضمير في أنهم وفي ظنوا للجن، وضمير ظننتم للإنس، وهو أولى من عود الأولين للإنس والثالث للجن مراعاة للسياق، أي أن كفار الجن كالإنس كانوا تيقنوا قبل سماعهم القرآن {أنْ لنْ يبْعث اللّهُ أحدا} 7 بعد موته، أي أنهم كانوا ينكرون بالبعث أيضا مثل الكفرة من الإنس وأنهم اهتدوا ورجعوا عما كانوا عليه حال سماعهم القرآن، فما بالكم يا كفار قريش لم تؤمنوا وقد سمعتم كثيرا من كلام اللّه، أما آن لكم أن تكونوا مثلهم فتؤمنوا بالبعث بعد الموت وتتركوا الإشراك باللّه وتفردوا ربكم الإله الواحد بالربوبية وبكل ما تأملونه من خير الدنيا والآخرة؟ ألم تساووا الجن بالإيمان بالرسول وما جاء به من عند اللّه؟قال تعالى حكاية عنهم أيضا {وأنّا لمسْنا} وجسسنا {السّماء} طلبا لبلوغها واستماع كلام من فيها كما كانت العادة قبلا {فوجدْناها مُلِئتْ حرسا شدِيدا} من الملائكة أكثر من ذي قبل بأضعاف كثيرة جدا {وشُهُبا} 8 تنقض من نجومها المضيئة علينا بكثرة أيضا خلافا لما كانت عليه قبلا {وأنّا كُنّا} قبل مبعث النبي محمد {نقْعُدُ مِنْها} أي السماء {مقاعِد لِلسّمْعِ} فنسترق ما يقع فيها من بعض القول حيث كنا نجد أمكنه في السماء خالية من الحرص وبعض المواقع منها عارية من الشهب، أما الآن فكلها ملأى من الحرس والشهب بكثرة لم تعهدها قبل، لذلك ماعدنا نقعد فيها خوفا أن نحترق {فمنْ يسْتمِعِ الْآن} بعد مبعث حضرة الرسول وإلى ما شاء اللّه {يجِدْ لهُ شِهابا رصدا} 9 يرمى به حالا فكان الشهب تترصد من يطلب الاستماع في السماء فترميه حالا وتحرقه.قال ابن عباس كانت الجن تصعد إلى السماء لتستمع الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا عليها تسعا فيحدثون ويبلغونها إلى الكهنة، فلما بعث صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولهذا كانت الناس تتهافت على الكهنة تهافت الفراش على النار فيعظمونهم ويحترمونهم ويسألونهم عن مصالحهم الحاضرة والمستقبلة، لأنهم قد يصدقون لأن ما يلقيه الجن إليهم من الكلام إذا صادف الحادثة تناقلها الناس بأن الكاهن أخبر بالغيب، فيعكفون عليه ويأخذ الشهرة بسببها، فإذا زاد عليها تسع كذبات يسمع منه ويصدق به أيضا من أجل صدقه في تلك، فيكونون قد ضلوا وأضلوا (وقد ذكرنا آنفا أن رمي النجوم بالشهب قديما وإنما زاد بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم) فقال لهم إبليس ما هذا من أمر قد حدث في الأرض، فبعث جنوده يتحرون الخبر، فوجدوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قائما يصلي بين جبلين (أراه قال بمكة) فأخبروه فقال هذا الحدث في الأرض، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وتقدم ما بمعناه بأوضح منه {وأنّا لا ندْرِي أشرٌّ أُرِيد بِمنْ فِي الْأرْضِ} حتى حرست السماء ورميت بالشهب ومنعنا من استراق السمع وحرمنا من أخبارها التي تلقيها الكهنة ليفيضوها على العامة {أمْ أراد بِهِمْ ربُّهُمْ رشدا} 10 من خير ورحمة وهدى {وأنّا مِنّا الصّالِحُون} في معاملتهم بعضهم مع بعض وسائر الخلق لا يريدون إلا الخير {ومِنّا دُون ذلِك} يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا مع أنفسهم وغيرهم لانا {كُنّا طرائِق قِددا} 11 جماعات متفرقين وأصنافا متقطعين مسلمين كاملين ومسلمين فاسقين وآخرين كافرين مثل الإنس الآن، إذ منهم المؤمن والكافر والفاسق وبين ذلك، كالنصيرية والدروز والإسماعيلية والعلوية والرافضة والقدرية والمرجئة والكرامية والدهرية وغيرهم، فرقا متباينة بالأخلاق والعادات والتدين {وأنّا ظننّا} تحققنا وأيقنا، وهكذا كلّ ظن في القرآن يكون معناه اليقين {أنْ لنْ نُعْجِز اللّه فِي الْأرْضِ} إذا فررنا في أقطارها فإنا نكون في قبضة متى أراد {ولنْ نُعْجِزهُ هربا} 12 إلى آفاق السماء ولانا تحققنا أنه قادر علينا أينما كنا لانفلت من قبضته ولا مقر لنا منه أبدا كيف وهو جل جلاله يقول: {والْأرْضُ جمِيعا قبْضتُهُ يوْم الْقِيامةِ والسّماواتُ مطْوِيّاتٌ بِيمِينِهِ} الآية 66 من سورة الزمر هذا {وأنّا لمّا سمِعْنا الْهُدى} من حضرة الرسول {آمنّا بِهِ} أي القرآن الذي قرأه علينا المعبر عنه بالهدى جزمنا بأنه من اللّه وآمنا به وبمن أنزله عليه المرسل لهداية الخلق إنسهم وجنهم {فمنْ يُؤْمِنْ بِربِّهِ} بعد أن رأى أن الإيمان به واجب حق ايمانا كاملا {فلا يخافُ بخْسا} نقصا في عمله وفي ثوابه {ولا رهقا} 13 يغشاه من إثم ومذلة أو مكروه مطلقا، أنظروا أيها الناس جنّا آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم لأول وهلة رأته وسمعت منه دون حاجة أتردد، فكر، وإنسا تتلى عليهم آيات اللّه منه ليل نهار، وهو معروف عندهم في صدقه وأمانته ونسبه ولم يؤمنوا، صدق اللّه {منْ يهْدِ اللّهُ فهُو الْمُهْتدِ ومنْ يُضْلِلْ فلنْ تجِد لهُ ولِيّا مُرْشِدا} الآية 17 من سورة الكهف {وأنّا مِنّا الْمُسْلِمُون ومِنّا الْقاسِطُون} الجائرون من أسماء الأضداد، إذ يأتي بمعنى العادلين المستقيمين على الحق والعادلين عنه والعادل من الأضداد أيضا لأنه بمعنى المائلين عنه، والمائلون من الأضداد أيضا لأنه يقال مال إلى الحق ومال عنه، واعلم بأن قسط بمعنى جار فحسب، وأقسط بمعنى جار وعدل، ولا يقال اعدل في الحكم بل عدل به، ويحتمل المعنيين {فمنْ أسْلم} نفسه إلى ربه وآمن بما جاء به رسوله وسلم الناس من لسانه ويده {فأُولئِك تحرّوْا رشدا} 14 طلبوا لأنفسهم الهدى والصواب، لأن من يجتهد طلبا للحق يو...
|